مفهوم التسامح.. تحت أنوار لوك وبايل وفولتير الحلقة الثالثة

مفهوم التسامح.. تحت أنوار لوك وبايل وفولتير الحلقة الثالثة
بقلم : أحمد المعطاوي

رابعا: تسامح فولتير

إنه فولتير صاحب العبارة المشهورة:” قد أختلف معك في الرأي ولكني على استعداد لأن أموت دفاعا عن رأيك”، والذي يقال عنه إنه من أشهر تلاميذ بيير بايل، رغم أنه لم يلتقِ به، إلا أنه دافع عن كل آرائه وزاد عليها ووصل بفكره عن التسامح مبلغًا لم يعرفه الفلاسفة الآخرون، ولقد أتى على ذكر اسمه في رسالته حين كتب يعدد أسماء من تنورت بهم فرنسا:” ويتعذر اليوم أن تحكم فرنسا، بعد أن نورها أمثال بسكال ونيكول، وأرنو، وبوسويه، وديكارت، وغاسندي، وبايل، وفونتيل، كما كانت تحكم في عصر غاراس ومونو..”

فولتير الذي كان يقدر جون لوك أيضا وكان ينعته بالحكيم، حيث نجد يقول عنه في رسالته:”… الحرية لم تجد من يعرفها بدقة إلى أن جاء لوك الحكيم فأثبت أن الحرية إنما هي المقدرة على الفعل.

فالله هو من يمنح هذه المقدرة؛ والإنسان، الذي يتصرف بحرية وفق أوامر الله الأزلية، لا يعدو أن يكون من عجلات آلة العالم الكبرى، ولقد خاضت العصور القديمة في سجالات لامتناهية حول الحرية، ولكن لم يضطهد أحد أحدا بسبب هذا الموضوع إلا في أيامنا هذه..”

هذا الفولتير الذي كانت عبارته أعلاه بمثابة سيف رفعه طيلة حياته في وجه التعصب الديني، ورسالته الفكرية التي نافح من أجلها ضد منطق محاكم التفتيش،
لقد بدأ وضع أولى اللبنات للأخوة الإنسانية، فكتب في رسالته الشهيرة: “إني سأذهب إلى أبعد من ذلك فأدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا إخوة لكم. ماذا؟! قد تجيبون أيكون التركي (أي المسلم) شقيقي؟ والصيني شقيقي؟ واليهودي؟ والسيامي؟ أجل بلا ريب، أفَلَسنا جميعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد؟”، إنه يدعو إلى تسامح كوني.

خلّد التاريخ الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير (1694- 1778) باعتباره رائدا في التنوير والتسامح في مرحلة كان يغلب فيها الصراع الديني الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد كان كتابه “رسالة في التسامح” مرافعة جريئة في وجه التعصب الديني، وذلك عندما وقعت حادثة إعدام جان كالاس البروتستانتي بتهمة قتل ابنه الكاثوليكي، وقد تعرض كالاس لتعذيب شديد، وأعدم تحت ضغط جماهيري متعصب برغم أنه لم يكن ثمة أدنى دليل على ارتكابه جريمة القتل، وقد تصدى فولتير للأغلبية المتعصبة متجاهلا انتماءه الكاثوليكي، وكان يرى أن كل الحجج التي قدمت لإدانة أسرة جان كلاس غير حقيقية، وهي ناتجة عن الغلو والتعصب في الدين، ويقول في هذا السياق:

“لو اقترف تلك الفعلة لا احتاج لا محالة إلى مساعدة زوجته وإبنه بيير كالاس ولافيس الشاب والخادمة، ولانغمس الجميع في الجريمة لأنهم لم يفترقوا على بعضهم لحظة واحدة ساعة وقوع المأساة الوهمية”، ونجحت جهوده في تبرئة كالاس (بعد إعدامه) وإدانة التعصب.

والتسامح وفق اصطلاح فولتير هو خاصية إنسانية وضرورية و ارتأى بأنه من لم يتحلى بها فهو أبعد من كونه إنسان وأقرب من العنف بمعنى؛ أن الإنسان يتوجب عليه أن يكون دائما على أهبة الاستعداد لتقبل الآخر، وهذا دائما في عرضة للخطأ.

كما يقر فولتير بأن التسامح يولد من رحم التعصب بحيث تكون الحاجة إليه دائما في أوقات العنف والحرب التي يكتسبها الدم، فيولد لنا التسامح ويصبح على قيد الحياة وتكمن الحاجة لتسامح في الحرية والضمير، وإنه يرى بأن”التسامح لم ينسب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية في حين أن عدم التسامح قد عمم المذابح على وجه الأرض”.
ولقد هاجم فولتير في كتابه قيد القراءة التعصب للدين والتحمس له، حتى أن سبعة من فصول كتابه توجت بلفظة التعصب، في حين خمسة فصول فقط ذكر فيها التسامح..
يتساءل: ” هل التعصب قانون طبيعي وقانون انساني؟”، ليجيب بأن الحق في التعصب حق عبثي وهمجي.

يتساءل:” هل عرف الإغريق التعصب؟”، ويجيب بأدلة على تسامحهم مع جميع الأمم وعلى احترامهم لدياناتها.

ويتساءل:” هل التعصب شرعا إلهيا في الدين اليهودي…؟” ويجيب، ” إذا شئنا أن نتفحص بإمعان الدين اليهودي، فستأخذنا الدهشة من وجود قدر عظيم من التسامح في سياق أفظع أشكال الهمجية”.

يتساءل:” هل المسيح من علم التعصب؟”، ويجيب، في آخر كلامه بسؤال فيقول:” هل من مستتبعات القانون الإلهي التعصب أم بالعكس التسامح؟ فإن شئتم أن تتشبهوا بالمسيح، فكونوا شهداء لا جلادين”، جوابا على أن أقوال المسيح وأفعاله تدعو إلى اللطف والصبر والحلم، وحتى أنه أمر بطرس بألا يشهر سيفه أبدا في وجه أحد..

ونراه يفرد فصلا يحمل شهادات ضد التعصب، ويختمه بنعت التسامح بالفريضة المقدسة، وأن التعصب عبثي ومجانب للعقل، وأكد على أن التسامح بإمكانه أن يقضي على التعصب وعلى أن من خلال هذه الفضيلة يتم القضاء على الخرافة والأسطورة، ومن خلال كل ما قام به فولتير للقضاء على أشكال التعصب توصل أنه لا يوجد حل بديل غير التسامح و اعتبره نتيجة حتمية لا مفر منها.

والتعصب الذي يتحدث عنه فولتير، ذلك الذي يؤدي إلى الجهل، ويكون صاحبه مقتنعا تماما بأنه على صواب ويرى غيره بأنه على خطأ، هذا بحسب فولتير،لا يمكن في أي حال من الأحوال التسامح معه.

ويمكن أن نخلص إلى أن فولتير قام بنقد الحماس الديني والتعصب غير العقلاني، وأنه ربط بين دعوته للتسامح ومناوءة الكاثوليكية من خلال ربطه بين التعصب والإيمان بالدين المنزل من عند الله، ولقد رأى أن وجود الكنيسة ورجال الدين يشكل أكبر عائق أمام تقدم الإنسان نحو العقلانية فالتسامح والعدالة، بحسب رأيه، ينبعان من الطبيعة، في حين ينبع التعصب المسبب لعدم التسامح من الخرافة والأساطير الدينية وأن الحد من الوحشية واللاتسامح يرتبط باخضاع رجال الدين للدولة، بدلا من استمرار الكنيسة في ممارساتها الراسخة في استخدام الدولة باعتبارها وكيل ينوب عنها في ممارسة التعصب، ولإصلاح الأوضاع لابد من تعديل القوانين حتى يتم فصل الكنيسة ومصالحها عن الدولة ومصالحها.

وبهذه الجرأة ، كان له التأثير الكبير في مجال الإيمان الديني وبفضله تجنبت فرنسا حركات الإصلاح المسيحية ،وكذلك كان تلاميذ فولتير مدينون له بالتسامح الديني الذي ساد في أوروبا وأمريكا، وأنه سار على نهج جون لوك في فصل الدين عن الدولة لتعميم التسامح والقضاء على التطرف.

خاتمـــــــــــــــة :

ويمكن القول، إن أفكار فلاسفتنا الثلاث تأسست على حتمية الفصل بين الديني والسياسي ومنع الدين ومؤسساته من التدخل في شؤون الدولة والدنيا وذلك من كون الدين يشكل علاقة خاصة بين المرء وربه، ومن كون الدين يؤسس للتعصب والانغلاق الفكري، وهو ما يوجب حصره في زاوية محددة وتحجيمه، حتى تسود قيم العقلانية والتسامح اللاديني في المجتمع.

لقد كان لأعمال كل من جون لوك وبيير بايل وفولتير آثارها القوية في نشر دعوى التسامح الديني والمدني على السواء، فلئن دعا جون لوك إلى التسامح واستثنى الكاثوليك الذين يتبعون أميرا خارج دولتهم التي يسكنونها والملحدين، نجد بيير بايل يوسع من دائرة تسامحه ليشمل المغضوب عليهم من طرف جون لوك، ونرى مع فولتير أن التسامح يفتح سماءه على الكون كله، كما عبر عنه في فصله الموسوم ” في التسامح الكوني”، من رسالته حين يقول:” .. أدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا إخوة لكم..”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *