مفهوم التسامح.. تحت أنوار لوك وبايل وفولتير

مفهوم التسامح.. تحت أنوار لوك وبايل وفولتير
أحمد المعطاوي

– الحلقة الأولى –
سؤال التسامح كقيمة، كأنه يحيل على فضيلة أو نظام أخلاقي، سواء تعلق الأمر بمثال أو نمط سلوكي،فإن التسامح يندرج في إطار الواجب أو ما ينبغي أن يكون.

أن تسامح أو تعبر عن سلوك متسامح، معناه أن تأخذ الآخر بعين الاعتبار، لأن السلوك المتسامح هو أن تقبل حجج الآخرين، ويكون المتسامح مستعدا للاعتراف بأخطائه، لذلك يكتسب التسامح معاني مختلفة حسب مجالات القول والفعل والتواصل، وفي كل الأحوال، أن تسامح، معناه أن تدخل ما يلزم من النسبية على أفكارك قياسا إلى نجاعة وصلابة حجج الآخرين، والتسامح بمعنى آخر، امتلاك فضيلة الاستماع والفهم والاعتراف وادماج الآخر كأفق للفكر والسلوك من فقدان الذات وتبديد مقوماتها، هذا التسامح الذي نراه قد نحت تدريجيا كمفهوم فلسفي، نراه قد بدأ دينيا لاهوتيا في أوربا، لكنه في منتصف القرن السادس عشر، وانتهى سياسيا، واصطبغ بصبغة مدنية في القرن الثامن عشر مع جون لوك، ثم بعد قرن من الزمان ألف فيه الفيلسوف الفرنسي فولتير وهو الكاثوليكي دفاعا عن جان كلاس البروتيستانتي رسالته في التسامح..

فما مفهوم التسامح وكيف نشأ؟ وكيف تصوره كل من جون لوك الانجليزي ومعاصره الفرنسي بيير بايل؟ وكيف أسس له من بعدهما فولتير في رسالته؟

أولا: في مفهوم التسامح

قدمت عدة تعريفات لتحديد معنى التسامح، يقول أندريه لالاند في موسوعته “ولدت كلمة التسامح في القرن السادس عشر(16م) نتیجة الحروب الدینیة بین الكاثولیك والبروتستانت وقد إنتهى الأمر بأن تساهل الكاثوليك مع البروتيستانت.

والعكس، ثم صار التسامح یرتجي اتجاه جمیع الدیانات وكل المعتقدات، وفي آخر المطاف، في القرن التاسع عشر(19م) شمل التسامح ، الفكر الحر..”
ويعرّف قاموس ويبستر التسامح بأنه “احترام آراء ومعتقدات وسلوك الآخرين والاعتراف بها”.

وتؤكد “باربراباسمونيك” أن التسامح فضيلة اجتماعية ومبدأ سياسي يسمح بالتعايش السلمي للأفراد والجماعات التي تحمل رؤى متباينة والتي تمارس طرقا مختلفة للعيش في المجتمع ويقتضي هذا الأمر توفر شرطين أساسين هما:

أولا: عدم الموافقة على رؤى الآخرين وسلوكهم .

ثانيا: القدرة على مواجهة السلوك والمواقف التي لا نقرها.

والتسامح وفقا لهذه الرؤية يتمثل في قبول غير المقبول، من أجل العيش المشترك داخل المجتمع.

ويعرف بيتر نيكولسون التسامح من خلال النظر إلى مكوناته التي تتمثل في التالي:

1. الانحراف ، بمعنى ما يتم التسامح معه منحرف عما يعتقده المتسامح، أو يفعله، أو يظن أنه يجب فعله.
2. الأهمية: بمعنى أن صاحب الانحراف ليس تافها.

3. عدم الموافقة: بمعنى المتسامح لا يوافق على الانحراف.

4. السلطة: بمعنى أن المتسامح يملك السلطة لكي يحاول كبح أو منع ما يتسامح معه.

5. عدم الرفض: بمعنى المتسامح لا يمارس سلطته، ومن تم يتيح للانحراف أن يستمر.

6. الصلاح: بمعنى المتسامح صائب والمتسامح جيد.

ويقدم لنا جميل صليبا معنى التسامح في معجمه:

“أنه احتمال المرء بلا اعتراض كل اعتداء على حقوقه الدقيقة بالرغم من قدرته على دفعه ،أو هو تغاضي السلطة بموجب العرف و العادة، عن مخالفة القوانين التي عهد إليها في تطبيقها.”

والتسامح عند علماء اللاهوت هو :”الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين”

ولقد كتب عبد الرحمان بدوي في موسوعته، أن التسامح الذي هو استعداد نفسي وسلوك ناتج عن هذا الاستعداد، لتفهم رأي وموقف الآخرين المغايرين لنا في الاعتقاد والتصرف، يكون إما دينيا أو مدنيا/سياسيا، التسامح يتعلق بالعقائد الدينية والتسامح المدني يتعلق بالمذاهب السياسية ويطلق على علاقة الدولة بالأديان.

بناء على ما سبق، يكون التسامح هو سعة الصدر التي تفسح الآخرين أن يعبروا عن آرائهم وان لم تكن موضوع تسليم أو قبول، وألا يحاول صاحبه فرض آرائه الخاصة على الآخرين، ويكون التسامح فضيلة الإمساك عن ممارسة المرء سلطته بالتدخل في آراء الآخرين ومعتقداتهم وأعمالهم.

ولقد بدأ كمفهوم في الظهور بعد حروب الأديان والاضطهاد الديني الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية ضد كلِّ من اختلف عنها.

وكان من رواد من نحت هذا المفهوم مارتن لوثر المصلح الديني الألماني مؤسس البروتيستانتية، وربطه بالصبر على المارقين من الدين، وانتظار عودتهم إلى طريق الصواب والدين الحق…

ثانيا: تسامح جون لوك.

مما سبق وجدنا أن مفهوم التسامح حمل جذوراً دينية، ثم لاحقاً تم إعادة صياغته بصيغة سياسية مدنية بشكل ليبرالي علماني مع الفيلسوف الإنجليزي، جون لوك، في رسالته الشهيرة في التسامح، إذ ركّز على الفصل بين السلطتين السياسية والروحية، وإعادة تعريف الدولة والكنيسة، وحدود دور كل منهما، وعلاقتهما بآراء الفرد واعتقاداته الدينية، إذ يقول في رسالته فيما يخص الدولة/ الحاكم: ” الدولة مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها”، ويضيف، إن واجب الحاكم المدني تطبيق القوانين بلا استثناء، لتوفير الضمانات التي تسمح لكل الناس على وجه العموم ولكل فرد على وجه الخصوص، بالامتلاك العادل للأشياء الدنيوية”، وإنه أكد على اعتبارات ثلاث:

أولا، خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني أو أي إنسان آخر.

وثانيا، رعاية النفوس ليست من شؤون الحاكم المدني لأنه يحكم بمقتضى سلطة برانية بينما الدين الحق الذي ينشد خلاص النفوس ينشد اقتناع العقل اقتناعا جوانيا، وثالثا، وإن هذا الاقتناع حتى وإن ارتبط بسلطة القانون وقوة العقوبات فإن كل ذلك لا يسهم أبدا في خلاص نفوسهم.

ولقد حدد دور الحاكم في إدارة الأمور الحيادية وقال:” .. وربما وحدها، خاضعة للحاكم”، ويضيف ، ولا يلزم من ذلك أن يشرع الحاكم.. إن الخير العام هو معيار التشريع”.

وأما فيما يتعلق بالكنسية فيقول لوك :” إن الكنيسة مجتمع حر ذو إرادة. فلا أحد يولد عضوا في أية كنيسة”، وينطلق لوك من أنه ينظر إلى التسامح هو العلامة المميزة للكنيسة الحقة، ويعتقد:

أولا ، أن أية كنيسة ليست مكلفة، بحكم واجب التسامح بالاحتفاظ بأي إنسان في حضنها يصر على الخروج على قوانين المجتمع.

وثانيا، ليس من حق أي شخص أن يحقد على شخص آخر ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر.

وثالثا، السلطة مادامت ذات طابع كنسي تبقى مقيدة بحدود الكنيسة ولا تمتد إلى الشؤون الدنيوية.

ويخلص جون لوك إلى أن لا الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة لديها أي مبرر للاعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين، لأن الغاية من أي دين هي إرضاء الله، وأن الحرية ضرورية لتحقيق هذه الغاية، وأن خلاص النفوس هي المهمة الوحيدة للكنيسة لكن دون إكراه، وفقط بالإقناع العقلي وأن ما تقدمه القوانين هو تأمين أموال الرعايا وصحتهم من أي اختلاس أو عنف يقع من الآخر.

ويبقى التسامح مع لوك، مفهوما إجرائيا على مستوى حرية الضمير والمعتقد، لكن هذا المفهوم يُؤَطَّر في حدود معينة، إذ ليس باب التسامح مفتوحاً للجميع.

إذ نلاحظ أن آباء المذهب البروتستانتي، وفي مقدمتهم مارتن لوثر، تأرجحوا بين تعزيز مفهوم التسامح حين كانوا أقلية، وعدم التسامح تجاه بعض الاتجاهات، مثل المناوئين للتعميد، حين أصبحوا في موقع القوة، وهو ما يشير إلى خضوع مفهوم التسامح لتوازنات القوة، والتغيرات السياسية، ونلاحظ أيضا، أن لوك نفسه يستبعد الكاثوليك ممن يجب التسامح معهم، لأن ولاءهم لأجنبي (البابا)، ولذلك هم يشكلون خطراً سياسياً، كذلك فإن لوك لا يتسامح مع الملحدين، إذ يعتبرهم خطراً على المجتمع والدولة.

ويوضح ذلك في رسالته حين يكتب:” الكنيسة التي يقوم دستورها على أن الذين ينتمون إليها عليهم، بالتالي، وضع أنفسهم تحت حماية أمير آخر، هذه الكنيسة ليس لها الحق في أن تطلب التسامح من الأمير..”، ويضيف، ” لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله”.

وهذا ما يؤخذ عنه كما يقول عبد الرحمان بدوي في موسوعته، أنه يستثني من التسامح طائفتين الكاثوليك والملحدين، بالإضافة إلى أن تصوره للتسامح ارتبط بالظروف التي كانت سائدة في انجلترا وقتها.
يتبع…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *