سؤال فن العيش الفعال..

سؤال فن العيش الفعال..

بقلم: أحمد المعطاوي

ثالثا: الزن أو زهرة اللوتس

“الزن” فلسفة عملية أخرجت شطئها بالهند واستغلظت بالصين ثم استوت على سوقها باليابان حتى ارتبطت بها ارتباطا، ولقد غزت العالم الغربي بقوة الآن. الزن مرتبط أصلا بالبوذية، ومتوافق مع كل الأديان والثقافات، فما ماهية الزن؟ وكيف تعاش الحياة بواسطتها عيشا فعالا؟

يحكى أن أحد كبار شيوخ الزن وهو يستقبل أستاذا جامعيا، قد جاء ليستفسره عن الزن، وحين كان يصب له الشاي في الكأس صبه دون انقطاع، حتى صاح الأستاذ صارخا: إن الكأس امتلأ حتى فاض” ، فأجاب الشيخ: لا يمكنني ملء إلا ما هو فارغ، لا ما هو مملوء، وأنت مثل هذا الكأس ممتليء بآرائك الخاصة، فكيف يمكنني أن أشرح لك ما هو الزن؟
يقول صاحب (كتاب فلسفة الزن) معلقا عن هذه الأمثولة :

أن تدرك أن الزن لا يدرك تلك هي الخطوة الأولى نحو الحقيقة

وكل المؤلفات التي تطرقت إلى الزن تؤكد الحكمة التالية :

” إذا لم تمارس الزن، فإن الأنهار تكون أنهارا والجبال جبالا، وعندما تمارسه تكف الأنهار عن أن تكون أنهارا والجبال جبالا، وعندما تحققه، تعود الأنهار أنهارا والجبال جبالا..”
الجدي في الأمر، هو أن اكتشاف ما هو الزن يكون عبر التجريب ومراقبة مشهد العالم بحكمة وحنو، وحدها الممارسة اليومية تعلو على كل شيء حتى تأتي الصحوة، والصحوة لا تأتي إذ انتظرها الإنسان، الذي يبغي الزن طريقا للعيش، أن تأتي بل عليه أن يمشي إليها، حتى تأتي إليه، يعبر عن عيش التجربة ما جاء على لسان أحد معلمي الزن لتلاميذه حين قال:

 .”يمكن أن أقودكم إلى المنبع، لكن لا يمكنني أن أشرب بدلا عنكم
وكما تعبر هذه الأسطورة القديمة عن وقت الصحوة التي تأتي بعد بذل الجهد المطلوب، وإن بشكل مفاجيء، تحكي الأسطورة أن كاهنا إسمه إكاتو لم يكن يفقه شيئا من جوهر الزن، على الرغم من سنوات التعلم والجهد الجدير بالثناء. فجأة، جاءته “الصحوة”، بعد أن تلقى عن غير قصد ضربة بقصبة خيزران على رأسه العنيد.
ومنه، وكتعريف أولي للزن، فالتعريف الواضح يقتل ويغتال كما يقال :

الزن الذي هو التأمل والتبصر، والذي يقدم دائما مخرجا ينزلق عبره الحدس، ويولد الشرارة الممكنة، يمكن القول أنه ليس منهجا فحسب، بل ممارسة حية ومباشرة تؤدي إلى مواجهة مع الذات حتى الوعي بها بوصفها بوذا من خلال التلقين والتعليم عبر ما وراء الكلمات من قلب المربي إلى قلب المريد (من قلبي إلى قلبك) كما عبر عن ذلك حكماء هذا الطريق،  يقول أحد معلمي الزن : 
رميت هذا الشيء الصغير جدا
الذي يسمونه “أنا “
وأصبحت العالم الفسيح

وفي تعريف آخر ، الزن دراسة الإنسان لنفسه، من أجل تحرير الفكر وتوسيع الرؤية، فهو مدرسة للحرية تفتح للإنسان أبواب عالم خلاب، ودراسة الإنسان لنفسه هي نسيان الإنسان نفسه
يقول المعلم دوجين:

” معرفة طريق بوذية الزن هي معرفة من نكون، ومعرفة من نكون هي نسيان الأنا، ونسيان الأنا هو أن تكون كل الأشياء شاهدة علينا “
ويساعد تأمل الزن على معرفة النفس، وضبطها والولوج إلى جوهر الأشياء بالحدس لا بالعقل ، ومن ثم معرفة الحقيقة الأزلية، وهذا ما يؤدي إلى السلام الداخلي ويتميز بالتركيز على المسار، وتفضيل مديح البساطة، والبقاء على أرض الواقع، ولا مقابلة بين الخير والشر، والزن كمنهج يحث على احترام الطبيعة والكائنات الحية والتحرر من المادة والتخلي على الرغبات التي تسبب المعاناة التي قد تطرق لها بوذا الذي أسس لهذه الطريق من قبل والذي قال فيما قال:

 ” لا أعلم إلا شيئا واحدا، أيها الرهبان، المعاناة والخلاص من المعاناة”.

 وبها، فالزن طريق من طرق التخلص من المعاناة وتصوب هذه الطريق إتجاه الذي يرنو نحو أفق العيش المطلوب في هذه الحياة، وإن الزن يعمل بلا ثنائية فعبارة شكسبير المشهورة ” أكون أو لا أكون” ، تصاغ حسب مبدأ الزن كالتالي:” أكون وأن لا أكون” .

وما يلزم ممارس الزن كخطوات لابد منها نحو اليقظة أو الساتوري، هو كالتالي: أولا: عدم التمسك بالآراء
كان هناك راهبان يراقبان راية ترفرف في مهب الريح، يرى الأول أن الريح هي التي تسبب حركتها،

 بينما يرى الثاني أن الراية تتحرك من تلقاء ذاتها، أما شيخهما فيرى أن عقلهما من ينتج الحركة والفعل.
الذهن عند ممارسي الزن يكون عائقا أمام الصحوة، ولهذا يسعون للتحرر من العقل والمنطق، يقولون:

أدخل في الشكل، أخرج من الشكل، وأعثر على حريتك

ثانيا: احتضان اللحظة الراهنة
العيش في الحاضر هو أحد أسرار الزن، وهو الحفاظ على صفاء الفكر على شاكلة مرآة لا تكدرها آمال ولا حسرات
وغالبا ما يرددون في دير الزن: ” تلذذ بالحاضر، فالماضي انزوى، والمستقبل حلم، الحاضر وحده موجود
ويرددون أيضا: ” عندما أمشي أمشي، وعندما أنام أنام، وعندما أستيقظ على الحقيقة، تقول قصيدة قديمة، يصبح ذهني لامعا وضاء، كشعاع القمر”

ثالثا: الصمت
يعلم الزن الإنصات بعمق للصمت الداخلي، وذلك بتنمية ضبط النفس والوعي بالقلب وعيا صافيا بدون أنا، إذ الإنسان الذي يجعل من نفسه مركزا للعالم يستنفذ قواه في لا طائل منه، فمركزية ذاته تفسده وتبعده عن الكون الذي هو جزء منه، ” فكل شقاء الناس يأتي من أنهم لا يعيشون في العالم، بل في عالمهم” ، كما جاء على لسان هيراقليطس الذي عاصر بوذا من الجانب الآخر من العالم..
وإقامة الصمت داخل الذات لا تعني بلغة الزن اعتزال العالم، بل بالعكس اعتناقه للشعور به وعيشه .

رابعا: التأمل
إذا كان التأمل في التعريف الغربي هو تفكير من شأنه أن يعمق موضوعا باستفاضة، فإن التأمل في مدرسة الزن والتي تجعله في قلبها، هو طريق كمال يستخدم الجسد كأداة يساعد على إطلاق المشاعر والإفراج عن الأفكار والتخلي عن الأنا بشكل مفارق الكف عن السعي لبلوغ هدف ما للوصول إلى مرحلة من الوعي دون أداة ولا موضوع..

وإن التأمل ليس تمرينا بدنيا فحسب، بل هو رؤية دون رغبة، رؤية مباشرة تقود إلى الحضور في الذات وفي العالم، وذلك بمراقبة الذهن الأفكار دون إتباعها،
وهدف التأمل الكبير في الزن هو الإفصاح للممارس عن طبيعة بوذا/الإستنارة فيه
ويكون التأمل جلوسا، أو ما يسمى الزازن، والذي يقتضي الجلوس بهدوء مع استقامة العمود الفقري وصمت أمام حائط على وسادة وترك التنفس يسري في يسر، ويقتضي أيضا التركيز و الإنضباط الذهني والجسدي، وإن المعلم دوجين كتب يقول:

” ما الزازن؟ إنه الوجود في اللحظة ذاتها فيما وراء كل وجود في الكون وبلوغ أبعاد بوذا والعيش في هذه الأبعاد”

ومن أفضال الزن أنه يعلم التنفس العميق، ويحث عليه، من أجل التوصل إلى الفهم الكامل للنفس الحامل للحياة، فالمحافظة على التركيز حول التنفس ينير الذهن، والتنفس طويلا كان أو قصيرا، يقول بوذا، يجب أن يبقى كما هو،ومسك القول في الزن ما قال أحد المستنيرين يوما:

” كما تزدهر أزهار اللوتس فواحة بالشذى حتى على كومة من الأقذار، هكذا يتألق تلميذ بوذا المستنير بين الناس المدلجين في الظلام”

خلاصة :

” فرادى.. لكن معا” هي الكلمة الأخيرة التي تريد أن تقولها الفلسفات الثلاث التاوية، البوذية و فلسفة الزن، اللاتي عرجنا عليها في هذا البحث، كل منها تحكي أن العيش هو مغامرة على مستوى الذات الواحدة تتضمّن في طياتها الفرح والحزن اللذان يتجدّدان دوما في دنيا الفرد، ولكن بجمع هذه المغامرات يبدو الأمر أن الفرادى صاروا معا يكونون مجتمعا من الناس يمشي على الأرض .
فالتاوية، كفلسفة عالجت عيش الإنسان من خلال علاقته بالوجود والحياة، ولاسيما من خلال التناغم الكلّي بين داخل الإنسان وخارجه، وصولا إلى مرحلة “التاو”، التاو الذي هو عبارة عن درجة التوازن والتكامل بين طاقتي الوجود، والذي هو القانون الطبيعي للأشياء، إذا ما تناغم على إيقاعه عيش الإنسان حقق الطالب والمطلوب من هذا العيش.

وأما البوذية فهي تركّز في مسألة العيش هذه على علاقة الإنسان بذاته وبمن خلق الكون، فمن خلال نشر بوذا الوعي بين الناس وزرع النقاء في نفوس بني البشر، وصبه جلّ اهتمامه على الحقيقة التي عنده: إما بيضاء أو سوداء، ويستحيل أن تكون رمادية، حاول صياغة حل معادلة العيش الصحيح، فكانت رسالة الفلسفة البوذية في فن العيش هي الدعوة لإدراك الوعي، فبالوعي يولد الإنسان من جديد يولد نقيا طاهراً، يولد من دون الأنا، يولد مستعدّا ليكون حرًّا وليس عبدا، وعلى هذا الأساس، فإنها تدعو لقتل الشهوات والتخلّي عن الغرائز، إلى النيرفانا حتى لا يبقى الفرد عبداً الشهوات والغرائز.

وأما مع ثالثة هذه الفلسفات، وهي الزن التي دعت إلى العيش في حالة نيرفانا دائمة لكن مع الذوبان في الطبيعة المحيطة وذلك عن طريق الاستغراق في اللحظة والذي يتحقق من خلال الفنون من موسيقى وشعر (الهايكو) والرسم والرياضة (الجودو، رمي القوس)، والعيش الخير من وجهة نظر الزن يكون عبر الممارسة لا الدراسة والبحث النظري، الممارسة والتجربة التي تؤدي إلى رؤية العالم كما هو والتمتع به كما هو.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *