“بنت الحضرة“ وتجليات العشق الصوفي عند الشاعر ادريس بلعطار

“بنت الحضرة“ وتجليات العشق الصوفي عند الشاعر ادريس بلعطار
إنجاز : أحمد قيود

“بَنْتْ الْحَضْرَة” العنوان الطلسم والمثقل بحمولة قد يستعصي فهمها وتفكيكها. خاصة إذا علمنا أن هذا المتن الزجلي يكاد في عمومياته يلامس موضوعا متفردا يمتح من خصوصيات عالم صوفي وغريب. “

والمتن الزجلي “بَنْتْ الْحَضْرَة” عند قراءته يثير نوعا من فضول البحث والتقصي، ويدفع بشكل لا إرادي إلى خوض غمار تجربة سبر أغواره بعين الناقد المتفحص الذي يتغيى استجلاء طبيعة شخصية المتن وهي “بَنْتْ الْحَضْرَة” وخصائص عوالم حضرتها. وكذا خبايا وأسرار ثكنتها المحروسة “ازريبة العشق “.إلى جانب باقي الشخوص.

إن أول عقبة واجهتني وأنا أحاول فك طلاسم هذا المتن الزجلي هو العنوان ذاته “بَنْتْ الْحَضْرَة”.. فالمألوف في أدبياتنا ونحن نطالع بعض الأبحاث والإنتاجات سواء أكانت أدبية أو دينية أو فلسفية، قد نصادف صيغا وتراكيب لغوية من قبيل “بنت الناس” التي حسب الدكتور مصطفى شكدالي الباحث في علم النفس الاجتماعي “تعني في المخيال الشعبي، بنت الحَسَب والنسب وبنت الأصل” بل وأكثر من هذا نجد حتى في قاموس معاجم اللغة : «بنت الشفة»: التي هي الكلمة و «بنت الأرض»: الحصاة. و«بنت العنقود»: الخمر. و«بنت اليمن»: القهوة. و”بنت العين” الدمعة. و «بنت الدهر»: المصيبة. وبنت اليم «السفينة»، إذن فمن تكون “بَنْتْ الْحَضْرَة” عند شاعرنا الزجال إدريس بلعطار؟..

بالنسبة لمصطلح “حَضْرَة” في مفهومنا العامي هو مصطلح مشتق من الكلمة المعربة “حضرة..”والحضرة مصطلح إسلامي صوفي، وتسمى به كل المجالس التي يذكر فيها اسم الله وخاصة عند مسلمي الطرق الصوفية السنية، التي تمتاز طقوسها بقراءة القرآن والأذكار في جو ملؤه الخشوع والسكينة …أما ” بَنْتْ ” الحضرة والتي يناجيها شاعرنا في متنه قد تكون رمزا للذات الإلهية، أو وسيطا بين الراغب والمرغوب، كما أنها هي أصل الحضرة، قياسا على ما ورد في قاموس معاجم اللغة المذكور.

يقول الشيخ الجنيد البغدادي: “سبق في علم الله القديم ألا يدخل أحد لحضرته إلا على يد عبد من عباده”. وربما قد تكون “بَنْتْ الْحَضْرَة” هي ذاك السند الذي سيعتمده شاعرنا لتحقيق مبتغاه. علما أن طقوس الحضرة والتلذذ بمباهجها يكون بالروح لا بالعين. وهكذا نجد الزجال إدريس بلعطار يبدأ متنه الزجلي “بَنْتْ الْحَضْرَة” بمطلع فيه من التوسل والتفضل ما يؤكد أن القلب قد انفطر حاله إلا من رجاء، حيث يقول :
يا بنت الحضرة..

جيتك اليوم تمديني…
ب اسواكن لونها عسل…
راه الحال مساس…

سنحاول التركيز على أسباب النزول المعبر عنها بجملة “الحال مساس” والتي يقابلها لغويا ضنك الحال، فحسب أسماء وليد أحمد شاهين “تشير كلمة الضنك بشكل عام إلى الضيق والهم والكدر وعدم سعة الصدر أو المكان”، وحينما تجتمع هذه الأمور كلها في ذات واحدة ترى صاحبها يكاد ينفجر. فتنجذب روحه نحو عالمها الخفي واللا مرئي… لممارسة طقوس خاصة تمد الذات بمزيد من عناصر الإراحة والتنفيس. وأمور أخرى قد تسمو بالروح إلى عالمها اللا محسوس، وذلك في ظل طقوس روحانية تذكيها نغمات “سواكن” وفي حضرة “ملوك” من أجل الوصول إلى حالة الصفاء الروحي والاستقرار النفسي. التي تفضي في النهاية إلى بلوغ لحظة السمو بشاعرنا لعالم ” زريبة العشق ” حتى تزول العلة ويتحقق المراد.

نشفت النظرة…
من ضو كان يديني…
لزريبة العشق عليل…
و يردني لاباس…”

ومن خلال معاودتنا لمقاطع المتن الزجلي يتكشف لنا أن مساحة معاناة شاعرنا تمتد بين حالتين متناقضتين هما ” الشفاء من العلة بفضل ما ستجود به “بنت الحضرة” من السواكن. وثوب الفرحة..و الضحكات…و الهوى…والصفا… والدفى…و الوفا…إن هي جادت. أو التمسك بالرجوع ل ” زريبة العشق ”

وخ ضرها…
اغلب اليوم دواها…

وبين الحالتين تناثرت كل الآلام والهموم والمتاعب التي تكاد من قوة مضمون المتن الزجلي أن تتجسد عيانا لتتحول بذلك من المجرد إلى المادي الملموس، وكأن شاعرنا يبسط أمامنا عالمه الطقوسي الصاخب والمليء بالتمفصلات التي تربط الشيء بالشيء حيث نصطدم بثلاثة عناصر يمكن اعتبارها أساس بناء هذا المتن الزجلي البهي وهي :
المطلب…
ومبرر المطلب…
والوسيط بينهما…
فالمطلب هو : الشفاء من علة العشق…
ومبرر المطلب هو : التشبت ب ” ازريبة العشق “.
والوسيط بينهما هو “بنت الحضرة”

وكيفما كان الحال. فالمطلوب ليس هو الزريبة في حد ذاتها بقدر ما هو ذاك الداء الشافي. الذي جسده مجنون ليلى في البيت الشعري التالي :

قالوا جننتَ بمن تهوى فقلت لهم/
العشـق أعظـم مما بالمجــانيــن /
ومن هنا نستنتج أن ” المحبة للقلب والعشق للروح ”

حيث “سُئِلَ أبو العبَّاسِ أحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشقِ: أيُّهُمَا أحْمَدُ؟ فقال: الحب؛ لأنَّ العشقَ فيه إفراط، وسُمِّيَ العاشِقُ عاشقًا؛ لأنَّه يذْبُلُ من شدِّةِ الهَوَى كما تذبلُ العَشَقَةُ إذا قُطِعَتْ. “(والعَشَقَةُ هي شجرة تخضرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ)

“إنَّ العشق هو الوسيلة(…..) لبيان النفس على حقيقتِها، سواء كان هذا العشقُ مُتَّجِهًا إلى الذاتِ العليَّة، أو إلى الذوات الأرضيَّة. والعشق الأرضي عشق مجازيٌّ؛ والمجاز قنطرةُ الحقيقة، وقد يصل السالكُ من هذا العشق الأرضي إلى العشق الإلهي الحقيقي الدائم الخالد .”
نلاحظ كذلك ملحاحية الشاعر ونديته في الطلب لا لنفسه فقط بل وحتى لغيره ممن يعانون…وكأن حاله يقول : يا “بنت الحضرة” رأفة بحالي خففي عني ألم الهجر وألم البعد، هات ما يشفي علتي ويخرجني مما أنا فيه من ضيق وكدر ، وارحمي الذات بما يبهج النفس ويفرحها. ثم هات الباقي مما يفرح لأوزعه وشاحا و بلسما على كل القلوب المكلومة التي أظناها اليأس. فيقول :

ديني..ديني…
ولا مديني…
من ثوب الفرحة حنطة…
لا تخلي سلهام القنطة…
على ظهري حتى يتبالى..
وخيوطو تتساس…
ديني..ديني…
ولا مديني…
ب ݣاع الضحكات…
اللي شاطو…
على شراجم الكيات…
نفرقها لبوس…
على نفوس يبسها لياس…

ف “ثوب الفرحة” و ” سلهام القنطة ” و”الضحكات” و “شراجم الكيات” كلها مجازات قد تعني ما تعنيه، وقد يفسرها كل قارئ ويفهم كنهها بقدر ما يشعر به من إحساس وهو يتماهى مع ما تجود به عوالم الصوفية من إيحاءات ومعاني…من منطلق أن اللغة الصوفية هي لغة ” إيماء وتلميح وليست لغة بلاغة وتوضيح ( ….)لغة تمجد الغموض؛ أعني الغموض بما هو استغلاق نابع عن خروج هذه اللغة عن المعايير السائدة والأليفة في القول والتعبير(….) بهذا المعنى تكون اللغة الصوفية لغة ليلية”.

وبالتالي فإن ” المتصوف في اشتغاله بالرمز أشبه بالرياضي الذي لا يفك رموز معادلاته إلا رياضي مثله.”

ونلاحظ كذلك أنه من خلال بعض الأضداد الواردة في المتن الزجلي يؤكد لنا الشاعر أنه بالضد تتحقق الولادة، وأن طبيعة الحياة تقتضي ذلك وإلا ستكون الحياة رتيبة مملة وقاتلة. لأنه لولا “القنطة” لما وجدت “الفرحة” ولولا “الكيات” ما وجدت ” الضحكات ” والعكس صحيح، وهكذا فبضدها تعرف الأشياء الأمر الذي يتيح إمكانية التعلم واكتساب الخبرات، وبالتالي تتقوي النفس وتتشكل الشخصية الحقيقية للفرد، القادرة على الخلق والإبداع والمتمكنة من كل أدوات التفاعل الحياتي.

إن الزجال إدريس بلعطار ينتقل بنا في متنه هذا من محطة إلى أخرى بسلاسة ويسر دون الشعور بأي ملل أو نفور، بل ينتابنا إحساس وكأن كل حبة تشدنا بشكل مغناطيسي إلى التي تليها، مما يقحمنا رغما عنا في دوامة عيش اللحظة والإبحار معه عن طواعية في عالمه الخاص متأثرين بقوة الكلمة وعذوبة النظم. فنفرح حين يفرح ونحزن حين يحزن ونُخطئ حين يُخطئ، فنُبتلى بابتلائه ونلح على الطلب والرجاء كما هو. حيث يقول :

يا بنت الحضرة
جيتك هاذ النوبة وحدي…
باغي نودي…
ؤ نغسل دنوبي يا وعدي…
من مرفودة…
كانت معهودة…
وتعطلت اليوم ف معطاها…”

في المعتقد الشعبي غالبا ما يصاب المرء ببلية تأخير ندره…من منطلق أن الوفاء بالندر واجب لأن النادر قد ألزم نفسه به، والندر يكون عبارة عن ” مرفودة ” إما عينية على شكل معونة أو عطاء، وإما مادية أي قدر مالي يجب تسديده في سبيل تحقيق رجاء منتظر. والتي يمكن أن نستشفها من قوله :

جيتك هاذ النوبة وحدي…
نلوح بياضي…
على منجج كان يسدي…
للقبة ف فراشها…
و كان يسدي ف غطاها…

قد يكون أصل كلمة ” البياض” هو بياض البيضة، إذا علمنا أن البيض في زمن ما كان يقوم مقام النقود، فبه تتم الصدقات وتقام المعاملات البسيطة ولنا في عطار البادية المتجول أكبر دليل على ذلك. ولهذا فإن تقديم “البياض” يكون إما بهدف تبرئة الذمة وتزكية النية لمباركة الشئ، وإما عند طلب تحقيق رجاء مرغوب، لأنه بدون ” البياض” يبقى الرجاء معلقا. ولنعي جيدا أن كلا من “البياض”و” المنجج “.تبقى مجرد مجازات جد معبرة من حق كل قارئ أن يتماهى معها بالشكل الذي يناسب وحالته النفسية وكذا مستواه الفكري، دون الخروج عن السياق العام لمنطوق المتن الزجلي.

بدليل أن ما يتضمنه المقطع التالي من دلالات مجازية يسير في نفس السياق والذي يقول :

وهاكي هاكي…
عظامي بلا حنوط…
ؤ فين إنوض…
البسباس والدرياس…
دفنيها..وقراي …
سورة العشق حداها…

إن الصيغ الواردة في هذا المقطع من المتن الزجلي والتي هي : “لعظام بلا حنوط” و”البسباس والدرياس” و”سورة العشق” كلها مفاهيم مجازية، أثثت لصورة شعرية فاتنة بعيدة عن كل تكليف أو افتعال. ولكل قارئ الحق في أن يرى الصورة الشعرية ويترجمها وفق ما تسمح به الحالة النفسية والوضع الاجتماعي الذي يتواجد في إطاره، وبالتالي فقد تتمثل لنا العظام بذورا سيتم “دفنها” بمعنى زرعها حيث ينمو “البسباس والدرياس” ، الذين سيشكلان الوسط الطبيعي للإستخلاف. بينما “سورة العشق” قد تعني ذاك الفرمان الضامن للحماية والرعاية والأمان. لنخلص إلى أن الصورة هي لذاك العاشق الذي يموت مئات المرات ويبعث بعد كل وفاة بعثة دنيوية، ليعيد الكرة مرات ثم مرات حتى يتحقق المراد. وهكذا هي أجساد العاشقين فهي دائمة الارتباط بعلل الأرواح. بحيث لا تزداد إلا قوة وصمودا وتحملا عند مواجهة الألم.

إذن ” القصيدة المبدعة هي تلك التي تحتوي على عناصر الجمال ومنها عنصر الصورة الشعرية من خلال المفردات المنتقاة التي لا يجيد اختيارها إلا شاعر متمكن”

ثم هناك عنصر آخر يتمثل في الفضاءات الواردة في المتن الزجلي ل ” بنت الحضرة” والتي نجد أنها تنحصر ضمن نطاقين أساسيين للحياه وهما:

أولا : نطاق ترابي يتمثل في ( زريبة العشق، وموطن البسباس والدرياس، ولبحيرة).
ثانيا : نطاق مائي يتمثل في ( البحر والواد). الذين وردا كالتالي :

أنت يا داااك البحر…
وأنا يا هد الواد…

من خلال التصرف في الفضاءات تتجلى لنا نظرة الشاعر الثاقبة، وتمكنه من التحكم في سلطان الزجل، هذا التحكم الذي لا يستطيع أي زجال بلوغ مفاتيحه إلا إدا رشف من يم الحرف وسيطر على سلطان الكلمة لتتفتح له أسرار المعاني و” تتفجّر من عمق أعماقه مناخات شعريّة تمنحه بهاء خاصّاً يميّزه عن سائر الشّعراء”.

فبالنسبة للنطاق المائي “البحر والواد” نلاحظ أن الزجال إدريس بلعطار عرف كيف يزاوج بين الماء والماء، ماء الواد بماء البحر. فطبيعة ماء النهر الهدوء وطبيعة ماء البحر الهيجان :

انت يا داك لبحر..
مواجو عل الدوام تتخاصم…
وانايا هد الواد…
ك العادة جاي نتراحم…

ورغم ذلك فمن خلال المتن نرى أن الواد هو الآخر قد يصاب بحالة هيجان في حالة كبح جماح حريته، كما ورد من خلال قول بلعطار:
أنت يا داااك البحر…
وأنا يا هد الواد…
محبوس…
بسدودا شداد…
بقطرة.. بقطرة…
حجرة / حجرة…
نريبها ونجيك…
ݣد لاموني..
ݣد لامو…
من قومها وبناها…

فنرى أن الواد هو المبادر بتحطيمه كل القيود وتحديه لكل الحواجز وقطعه المسافات من أجل الوصول لتحقيق هدف واحد وهو معانقة البحر رغم لومة اللائمين.

فحتى “ملحمة الخلق البابلية الأشهر والمعروفة باسم الأينوما إيليش، تظهر الحياة الأولى كثمرة لزواج مقدس بين نوعين من أنواع المياه، وهما إبزو إله المياه العذبة، وتيامات إلهة المياه المالحة والمحيطات”.

ترى هل هي حالة عشق أم تجربة عاشق عرف كيف يكبح جماح عشقه، ليترك العنان للحرف كي يحدد لنا عناصر تلك التركيبة السحرية التي مكنت من صياغة قالب يُظهر لنا العشق في أسمى تجلياته دون الإفصاح عن طبيعة العاشق أو المعشوق. موثرا من أجل ذلك كل غال ونفيس، متحملا مشاق البحث عن النادر من الأشياء والغريب منها ليقدمه هدية لمعشوقته.

جايب من الثلج بيوضة…
ومن القرفة عواد…
وجايب لرياح…
مرشات للندى…
وجايب..
الما لحلو رجداد…
وجايب…
من لبحيرة صريرة…
بشلا مشامم…
وشلا نسايم…
وجايب…
من لبحيرة…
ريحة ترابها و حصاها …

نرى أن شاعرنا قد أورد هنا عدة استعارات من قبيل : بيوضة الثلج/ عواد القرفة/ مرشات الندى/ الما لحلو/ صريرة مشامم/ ريحة تراب لبحيرة وحصاها.

فحسب ما قد تمثله هذه الاستعارات من إشارات لغوية قد نجد أن : “بيوضة الثلج” أو اللون الأبيض هو مؤشر لبدء حياة جديدة.
“عواد القرفة” بما أن عيدان القرفة تمتاز بطول العمر فقد تكون بالتالي إيدانا بطلب طول العمر ، أضف إلى ذلك أن أوراقها تكون على شكل قلب.
“مرشات الندى” والندى في معجم المعاني الجامع تعني السخاء والجود والخير.

“الما لحلو” هو أصل الحياة ورمز للطهر كما أنه ينعش الروح ويذكي جدوة العشق.

“صريرة مشامم” وهي باقة ورد تفضي ألوانها إلى عدة دلالات رمزية كما أن لها تأثير على النفس.

“ريحة تراب لبحيرة وحصاها” فيها تذكير بالأصل وتثبيت للهوية، وهي رمز لتلك الرابطة الروحية بين الإنسان وموطن نشأته.

إذن يمكن ترجمة كل ذلك إلى أن النفس العاشقة التي تتجسد في ذات الواد، فهي تقدم وبسخاء كل مبررات التراحم والقبول. فباعتبار كونها تعيش على السجية وتسعى إلى بذل كل ما في وسعها من أجل بدء حياة جديدة، كلها حب وسخاء وجود وخير، خاصة وأنها ذاتٌ أصيلة متأصلة لها جذور راسخة وتاريخ عريق ولا تعرف المراء ولا النفاق.

ثم إنه بعد التعمق في قراءة المتن الزجلي نلاحظ أن الحوار الذي كان مضطرما بين الذات العاشقة و”بنت الحضرة” قد انتقل إلى شخوص مجازية أخرى هي الواد والبحر. خاصة وأن سلاسة الانتقال لم تشعرنا بأن هناك أي انفصام أو قطيعة في المسار السردي للمتن الزجلي، فالقيمة التي تتبوأها “بنت الحضرة” داخل المتن قد تكون بقيمة البحر في شساعته وصخبه. بينما تجسدت ذات العاشق في الواد الهادئ في انسيابه والسخي بعطاءاته. وهذه صورة تؤكد ما ذهبنا إليه فيما يخص تمكن الزجال إدريس بلعطار من ملكة التصرف وبذكاء في هندسة النظم وتطريز الحروف لنسج متن زجلي راق المستوى ومتكامل العناصر.

أما بالنسبة للنطاق الترابي المتمثل حسب المتن الزجلي في (زريبة العشق، وموطن البسباس والدرياس، ولبحيرة). وكلها مجالات لها علاقة بالتراب، والتراب هو عنصر من عناصر الحياة الأربعة التي هي الماء والهواء والتراب والنار. إلا أن التراب يبقى العنصر الأكثر قدسية مقارنة مع باقي العناصر. فأدم خلق من طين الذي هو مزيج عنصري الماء والتراب، وأحيانا يرقى التراب إلى مستوى قيمة الماء لأن به تكون الطهارة مصداقا لقوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا). وأن حفنة من تراب قد نجد بها عددا من الكائنات الحية أكبر من عدد سكان الأرض.
وهكذا نلاحظ ونحن نجوب دروب وأزقة المتن الزجلي “بنت الحضرة” أنها كلها موشومة بالمقدس تنبعث من جوانبها روائح البخور ونغمات الموسيقى الروحية.

وجدبة و جدبة…
صارو جدبات…
والميزان بالصح خطاها…

لكن جدبة شاعرنا حينما تصبح جدبة صماء وبدون ميزان، فاعلم أن طقوس الحضرة أصبحت خارج الزمن وبالتالي يصبح من الصعب النظر بحياد لتلك الأفكار التي أصبحت تتحكم فينا عاطفيا رغم كل المحاولات التي نقوم بها من أجل التحرر من علل النفس. فالمتن برمته هو تجربة روحية بحثا عن شيء ما، بدايته سر ونهايته غموض لكن معناه في مبناه ( ولِسانُهُ لِسانُ شاعرٍ ذاقَ سِحرَ البيانِ فأبان).

جيتك مديني…
بالهوى مديني…
بالصفا مديني…
بالدفى مديني…
مديني مديني…
بالوفا ولا اديني …
لزريبة العشق…
وخ ضرها…
غلب ليوم دواها…

وهكذا يصبح الشرط رجاء بل أملا حتى ولو لم يتحقق المراد، فالمهم والأهم هو التشبت ب “زريبة العشق”..

وخ ضرها…
غلب ليوم دواها…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *