الحزن كــلون في سمفونية الرواية قراءة في رواية آنا كارينينا لتولستوي

الحزن كــلون  في سمفونية الرواية قراءة في رواية آنا كارينينا لتولستوي

جهاد نفس في بحثها عن حقيقة الحياة، هكذا يعتبر النقاد رواية آنا كارينينا، في هذه الرواية العظيمة قيمة وأسلوبا حكى ليف تولستوي مؤلفها العظيم في هذا الفن على لسان أحد شخوصها التالي
” فروى بيتريتزكي: تسلق فلولكوف على السطح قال إنه يحس بالحزن، عندئذ قلت تقدمي أيتها الموسيقى واعزفي اللحن الجنائزي”

-الحزن؟ ما الحزن؟ من الحزن؟
أجاب أحدهم: توجع القلب لفائت أو تأسفه على ممتنع

على مساحة رواية آنا كارينينا، رسم تولستوي صورة واسعة للواقع الروسي راقصا على لونين أو لنقل على حبلين: حبل العائلة وحبل النفس والفكر لشخصيته ليفين الذي يعكس شخص الكاتب في فترة من مراحله الفكرية على حد تعبير الباحثين الذين تناولوا الرواية بالبحث والتحليل.. ولقد كان ثالث الأثافي أو اللون أو الحبل الثالث الذي صاحب الشخصيات في حياة الرواية كما يصاحبنا نحن أيضا كناس ندب دبا على أرض هذه الحياة : هو الحزن..

-الحزن؟
يبقى الحزن رهين بشكل كبير، أقول بشكل كبير، بماهية الحب العاطفة التي تؤسس لها متفاعلات فتثمر بعد ثباتها نواتج، بلغة الكيمياء، سواء بين الخالق والكائن أو بين الكائنات فيما بينها
في غياب الحب يحضر الحزن بخيله ورجله فيجثم على صدر الكائن.. ويحضر هذا الحزن ، أيضا في حضور الحب وإن بشكل غريب كالذي يحدث لآنا كارينينا شخصية الرواية وعنوانها، آنا التي لا يمكن أن نؤطرها بوصف تبقى من خلاله راسخة في الذهن إلا بما وصف به الشاعر ييتس حبيبته، يقول ييتس:
 “قوامها مليء كله
كأنما بجلال الضوء،
غير أنها إمرأة فائقة الرقة،من بوسعه أن يقول أي واحد من قواماتها قد أظهر مادتها بحق؟”

الآن وفقط إذا أخذنا بوصف ييتس الأخاذ نكون قد أصبنا كبد وصفها بقوس الشعر الفضي اللسان

وأقصد بحبها الغريب ذلك المخالف في عرفها وتقاليد قومها والمجتمع، إذ تعشق وهي المتزوجة والأم لابن، الشاب فرونسكي الفارس البارع ، الممتلئ بالحيوية وبالعصرية في المظهر والفكر وبالحرارة في الشعور والرغبة
أقول في حضور هذا الحب نرى جيش الحزن مرة أخرى يتقدم ناشرا شراع سفنه يشق أمواج عواطف الكائن ليحتل المساحات الخضراء منه، الخضراء من لحظات الفرح القليلة، غنى بوشكين يوما:
.. “أجل لقد أحببتك
غير أني لن أقلقك بحبي ثانية
ما أنا راغب بأن أحزنك”

إنه الحب، في الغياب والحضور: أمران أحلاهما حزن

إضافة إلى آنا الفاتنة المفعمة بالحياة، نجد دولي زوجة أخيها التي تعاني بطريقتها وليفين الذي هام غراما بكيتي فعانى، كيتي التي تتعلق بالشاب فرونسكي المتعلق هو الآخر بآنا فتشقى وتحزن كيتي حزن حواء ويشقى ليفين شقاء آدم..

نقرأ أن أبطال الرواية يظلون يدورون في حلقة مفرغة، حلقة الحزن الذي تحيط ناره حيواتهم المتجاورة من كل جانب وهم فيها يصطرخون لما قد نزفوا من دماء وأحرقوا من أعصاب في سبيل تحقيق سعادتهم الكبرى كل حسب وهمه الخاص..إنه قال إبن عطاء الله السكندري في حكمه: “وما قادك مثل الوهم..”

ومع تقدم أحداث الرواية نلفي الحزن يستعر أواره أكثر حتى أنه طال إحدى الشخصيات الثانوية حتى أسلمه إلى السطح: إنه صاحبنا فلولكوف.. أتذكرون؟

وقد نخلص إلى أن كل الحزن وأخطر الحزن وأدهاه وأمره يتجلى حين يكون الإنسان كائنا بمشاعر غنية وعواطف جياشة، هنا يشكل الحزن لوحة تخترقك وأنت تتأملها بوساس فكر يحافظ على مذاق من اللحم والدم بلسان إميل سيوران

-…وعلاج الحزن؟
بالطبع لكل حزن علاج، وكما أن كل شخص من حيث هو نسيج وحده، فهو أدرى بشكل حزنه، وبالتالي فهو يداويه بطريقته الخاصة، وفي آنا كارينينا أيضا، نقرأ أن شخصياتها ابتكرت لأحزانها علاجات لها صلة وثيقة بتربيتها وثقافتها
فليفين وجد الدواء في بهجة العمل ومشاركة الفلاحين لحظاتهم، و نراه وجده في أن ينظر ويصغي ويفكر، يقول السارد “..لم يترك نهار العمل الطويل من أثر سوى البهجة، وغاب كل شيء في الصمت قبيل الفجر… قبل طلوع الصبح، ثاب ليفين على نفسه وقام ونظر إلى النجوم وأدرك أن الليل قد مضى..” أدرك أن الحزن قد مضى، أليس الحزن لون الليل الحالك
فلولكوف وجده في تسلق السطح يقول السارد بعد كلام:”…فنام فوق السطح نوما عميقا على أنغام..”
ووجدت كيتي ضالة علاجها في:” …أن تنسى نفسها وتحب الآخرين لتكون هادئة، سعيدة، جميلة..”
ودولي وجدته في الصفح الكامل والانغماس في العائلة
وآنا كارينينا التي تحمر بسهولة.. التي شخصها بديع ووجهها .. التي مخمل حليتها الأسود يحيط عنقها برشاقة.. التي مخملها كان رائعا يكاد يملك موهبة الكلام.. التي كانت إبتسامتها ترتعش في نظرتها تارة، وتارة أخرى على شفتيها، بتعبير السارد بتصرف
وجدته المسكينة في الإنتحار
وفي التغابي والتغافل وجد زوجها العلاج، ألا يقولون:
” الغباء نقص ، والتغابي كمال ، والغفلة ضياع ، والتغافل حكمة”
أما العشيق فرونسكي فكان علاجه الناجع في البحث عن مغامرات أخرى لينسى، ولينسى آنا كارينينا
فرونسكي ينسى.. ونحن نبقى نتذكر آنا كارينينا الشخصية والرواية “كتاب الكتب” كما يطلق عليها لمبدعها العظيم “إنسان الإنسانية” كما سبق وأن توج صدره أهل هذا الفن بهذا اللقب..

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *