رجع الصدى.. شيرين أبو عاقلة الجسد المزعج بالروح وبدونها

رجع الصدى.. شيرين أبو عاقلة الجسد المزعج بالروح وبدونها
عبد الكريم جبراوي

عبد الكريم جبراوي

لكل حدث وقائعه وتجلياته، ولكل حدث تبعاته ونتائجه، كما لكل مستجد تحمله الأخبار من هنا أو هناك نسيج من الحديث يتردد، وعند هذا التردد يتولد صدى الخبر، فيكون رجع الصدى نتيجة لخبر الحدث…

صباح يوم الأربعاء 11 ماي 2022 سقطت شيرين أبو عاقلة (51 عاما) مراسلة شبكة الجزيرة برصاصة أصابتها أسفل الأذن في مخيم جنين شمالي الضفة الغربية وهي تحاول تغطية ما يدور هناك من اقتحام للقوات الإسرائيلية لجنين، ومحاولات التصدي من جانب الفلسطينيين من أبناء ذات المخيم، فيم أصيب زميلها المنتج علي السمودي في ظهره، كما ظلت رفيقتها شذا الحنايشة تحتمي بجذع الشجرة ولم تستطع التحرك من مكانها لملامسة جسد شيرين تبكي وتختبئ كي لا تصيبها رصاصة من جهة الإطلاق التي حتمت على الذي أتى لحمل جسد شيرين أن يلجأ هو الآخر إلى الاختباء من الرصاص قبل أن يعود ويحمل الجسد المنهار.

سقوط شيرين قتيلة وهي تؤدي مهمة من أنبل المهمات التي تنقل الخبر صوتا وصورة إلى ملايين المشاهدين والمتتبعين وتوثق للأحداث لا سيما ما يجري على أرض فلسطين المحتلة بالرغم من صعوبة العمل في بيئة محفوفة بالمخاطر وتحت الطلق الناري الذي لا يرحم ولا يفرق بين من بيده السلاح الناري أو الأبيض أو الميكروفون والكاميرا وأجهزة التصوير.

ماتت شيرين الجسد، ونعاها العالم بأسره بألم وحزن عميقين، وتواترت عبارات الاستهجان والإدانة والغضب من كل بقاع الدنيا في تلاحم مع الحدث الذي هز مشاعر الجميع باستهداف مراسلة صحفية سلاحها الكاميرا والميكروفون وأعيرتها النارية كلمات في عبارات وجمل تتضمنها تقاريرها وتغطيتها الصحفية لمجريات الأمور على أرض فلسطين المحتلة من طرف قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وتنقل جثمان شيرين الجسد عبر مجموعة من المدن والقرى الفلسطينية بما فيها جنين ونابلس ومخيم الأمعري ومخيم قلنديا ورام الله والقدس، وتوقف النعش بعشرات المواقع ليوارى جثمانها في مقبرة جبل صهيون إلى جوار والديها، وكان في تنقل الجثمان عبر مختلف المحطات وتوشيحها بوسام ” نجمة القدس” من طرف الرئيس الفلسطيني محمود عباس كأحد أرفع الأوسمة التي تمنحها السلطة الفلسطينية، وربما كتعبير على أن شيرين ستبقى نجمة تتلألأ فوق سماء المدينة المقدسة وفي كل محيطها القريب والبعيد، وتتبعت الملايين من كل أصقاع الدنيا كل مراسيم تشييع جنازتها المهيبة التي ربما لم تخطر على بال أحد أن تكون بذاك الحجم وبذلك الزخم، بل ربما سقط في يد من امتد أصبعه للزناد وضغط عليه سواء كان قد تلقى إشارة أو استجاب لتحريض أو حاول ركوب مطية الإرضاء، وكانت الجنازة حافزا للتلاقي والالتحام بين الديانات والطوائف والانتماءات، رغم أن جنازة شيرين لم تنج من الضرب والاعتداءات من جانب القوات الإسرائيلية ما شهد لها تاريخ ولا مكان مثيلا، ليجسد كيف يكون جسد شيرين أبو عاقلة ومن خلاله الجسم الصحافي مزعجا بالروح وبدونها.

وتسابقت الروايات لاحقها ينسخ سابقه، فبعد ادعاء الجانب الإسرائيلي أن الطلق الناري الذي أصاب شيرين كان مصدره الفلسطينيون، خلص في الأخير إلى أن وحدة دوفدوفان كانت غير بعيدة عن المكان وأن المسافة التي كانت بين الجنود الإسرائيليين لم تكن تتعدى 150 مترا، وأن الرصاصة التي أصابتها كانت من عيار 5,56 ملم أطلقت من بندقية نوع إم 16.

شيرين أبو عاقلة لم تكن كصحفية لوحدها في المكان، وهي التي صارت صورتها مألوفة في المشهد الإعلامي، أي أنه لا يمكن القول إن من أطلق النار عليها لا يعرفها ولا يميزها عن غيرها، ثم إن شيرين كانت ترتدي الخوذة الصحفية الواقية والسترة الصحفية الواقية كذلك بدليل صور وفيديوهات جثتها لحظة ما بعد رميها بالرصاص مباشرة، تلك الرصاصة التي أصابتها بشكل مباشر في الرأس وكانت رصاصة قاتلة بدليل موقع الإصابة التي لا يمكن أن يصيبها فيه إلا رام غايته الإصابة بمقتل، ولربما كانت البندقية التي انطلقت منها الرصاصة مزودة بمنظار  للتصويب بشكل أفضل.

شيرين، وبفعل توالي تغطيتها للاشتباكات والتدخلات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تمرست على حسن التموقع لضمان التغطية الإعلامية الجيدة في نقلها للصورة والصورة المقابلة، ومن الغباء أن يقول قائل إنها كانت في مسارات مرمى النيران، لأنها تمارس عملية نقل للمشهد وليست في مهمة من مهمات المواجهة والاشتباك ولا تشكل أي تهديد اللهم إن كان الرامي قد اختلط عليه الأمر فاعتبر الميكروفون صندوق رصاص والكاميرا بندقية، يضاف إلى ذلك أنها كانت تكون أحرص على وجودها في مكان مكشوف تسهل رؤيته على من بيده السلاح وله أوامر بإطلاق الرصاص.

شيرين نقلت الخبر والصورة والصوت، فوضحت وشرحت وشدت إلى تغطيتها وتقاريرها متتبعي القناة ومتتبعي ما يجري على الأرض بجسد فيه روح قبل أن تصير هي ذاتها محور ومادة الخبر بعد استهدافها برصاصة غادرة، وأصبحت أيقونة لإيقاظ الضمير الإنساني تجاه معاناة قاسية لشعب بأكمله لا يعيشها أي شعب آخر على وجه الأرض في انتظار انتفاضة هذا الضمير العالمي من أجل إيقاف النزيف الدموي وإيجاد الحل والتسوية السلمية الشاملة للملف الفلسطيني.

رحلت شيرين الجسد إلى الأبد، ولكن شيرين الروح ستعيش إلى الأبد، تطوف عبر التيارات الهوائية في كل حدب وصوب، تخاطب الوجدان والضمير، تلعن الرصاصة التي أصابت رأسها وتمسك بناصية من ضغط على الزناد وتسائله بأي ذنب قتلت، تسائله إن شعر براحة أو بارتياح وهو يصيبها في مقتل، تسائله إن كان ينام دون أن يراها واقفة متشحة بالبياض مبتسمة في وجهه رافعة كفيها إلى السماء، تسائله عن موعد التلاقي يوم الحساب في أعلى عليين عند الملك المقتدر، تسائله عن رزنامة تبريره لما فعل، تسائله عن الوزر الذي ناء وينوء بحمله.  Jabraoui2013@yahoo.com

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *