مفهوم الاعتراف تحت أضواء تشارلز تايلور.. وأكسل هونيثة (الجزء الثالث)

مفهوم الاعتراف تحت أضواء تشارلز تايلور.. وأكسل هونيثة (الجزء الثالث)
بقلم : أحمد المعطاوي

ثالثا: أكسيل هونيث وفلسفة الإعتراف

أكسيل هونيث مفكر الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت بألمانيا والذي يعتبر من أهم الفلاسفة الذين عرفهم العقل الغربي في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال سعيه الدؤوب لتجديد فكر المدرسة النقدية التي ينتمي إليها، بحكم أنه يحمل مشروعا فلسفيا عميق سيكون له تأثير كبير في المنحى الفلسفي والسوسيولوجي، وبالخصوص لما عمل على التأسيس لتصور جديد معاصر سماه بنظرية الاعتراف، التي اكتست أهمية كبيرة في الدراسات الاجتماعية و الفلسفية المعاصرة، وخاصة حين أصدر كتابه المثير “الصراع من أجل الاعتراف”، الذي قد اعتبره الباحثون كتابا أسس لنظرية الاعتراف، لتأتي بعدها زمرة من أهم كتاباته التي تعد تأسيسية للنظرية الجديدة ومنها : ” مجتمع الاحتقار : نحو نظرية جديدة”، وكتاب “التشيؤ كنسيان للإعتراف”، وفي هذا الإطار، نتساءل كالتالي:

بالإضافة إلى النظرية النقدية، ما هي الأصول الفكرية التي استقى منها أكسيل هونيث أساسات نظريته في الاعتراف؟ وما هي العناصر التي المكونة لفلسفة الإعتراف؟

1. أكسيل هونيث والنظرية النقدية:

تأثر الفيلسوف آكسل هونيث في بداية فترة التلمذة الفلسفية بأقطاب الجيل الأول للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت على رأسهم: ماكس هوركهايمر و ثيودور أدورنو، وهربرت ماركوز، ثم على يد أستاذه يورغن هابرماس الذي يمثل الجيل الثاني للمدرسة ثم انكب بعدها على إعادة بناء النظرية النقدية من جديد وتحيينها لتواكب المنحى الفلسفي المعاصر وتقلبات الحياة المعاصرة تاريخيا وفكريا وثقافيا، لهذا كان لزاما عليه أن ينفتح على فلاسفة ومفكرين كبار مثل الفيلسوف الألماني هيجل، وعالم الاجتماع جورج هربرت ميد وبالتالي سعى إلى إعادة بعث نظرية جديدة تقوم على جملة مفاهيم وأطروحات وعلى رأسها مفهوم الإعتراف الذي يحتل منزلة مركزية في الفلسفة الاجتماعية.

ولكن هذا لا يعنى بأنه نأى بنفسه عن فلسفات رواد الجيل الأول، الذي اعتنق رواده الفلسفة الهيجلية، هاته الأخيرة التي تقول بأن الواقع الفعلي العملي الذي يرتكز على التلاحم و القيم المتلازمة يجب أن يكون ذو طابع عقلاني، وهذا بالأساس جوهر ما تسعى إليه مقاربة النظرية النقدية بمدرسة فرانكفورت، والتي سعت جاهدة من أجل إقرار مبدأ يلح على ضرورة إدراك التحقيق الذاتي الفردي، من خلال ارتباطه بلزومية العلاقة مع البراكسيس المشترك الذي لا يمكن أن يكون سوى نتيجة لتحقيق العقل.

ومهما تباينت مفاهيم العقل المتداولة في النظرية النقدية من عهد هوركهايمر إلى هابرماس ، فإنها تصل في الأخير إلى أن طبيعة الرأسمالية الحديثة المتغيرة قد جلبت معها تغيرا في طبيعة الذات، وتشك في أن الافتراض الذي يرى أن سيرورة التغير قد حررت الفرد الحديث.

وترى النظرية النقدية أن الفرد الذي تتسم حياته الداخلية بالإذعان والتشتت، يعمل بصورة حسنة على مستوى التفاعل، إنما ليس من غير خسارات فعلية في قوة إحساسه بالهوية الفردية، وتذكر بأن علينا أن نقلق إزاء الفكرة التي مفادها أن المجتمعات الأشد تقدما قد حررت أفرادها ودفعتهم إلى عصر ذهبي من الحرية الفردية، وتؤكد على أن التوجه نحو البراكسيس التآزري التحرري يجب أن لا يكون نتيجة علاقات الإنتماء أو نتيجة إختبار عقلي.

لقد أخذ هونيث منهم الشيء الكثير، لكنهم بحكم أن الجيل الأول حافظ على براديغم الإنتاج الخاصة بكارل ماركس ولم يتحرر منها، ثم فكرتهم المفرطة في فرديتها عن الذات، حيث نظر إليها على أنها وعي فردي تتعرض للظلم والاضطهاد ووصف ذلك بتشييء للوعي، وهذا يسد سبيل الرؤية أمامه بحيث يغفل عن تلك النطاقات من الحياة حيث يعمل البشر على نحو إبداعي مع الآخرين، ولهذا نجد هونيث قد انتقد النظرية النقدية، ثم اعتقد في أن هابرماس أستاذه الذي يمثل الجيل الثاني قد نجح في استبدال براديغم الإنتاج إلى براديغم التواصل، الذي هو في جوهره يحيل إلى ذلك التعالق المرتبط بالرموز وأن يلتزم بالمعايير المعمول بها، والتي تحدد تطلعات السلوكات المتبادلة بحيث يشترط أن تكون معترف بها من طرف الشخصين الفاعلين.

غير أن، براديغم التواصل وجده هونيث لا يسمح بإبراز مكانة وأهمية الصراع الذي يعرفه المجتمع حاليا، ثم إن نظرية هابرماس استندت على القواعد اللغوية الصورية لعملية التواصل، فليست اللغة تعبير الكل عن الكل، بحسب هونيث، وإنما هي فقط جانب من جوانب التواصل السوسيولوجي التفاعلي في الفضاء العمومي، وقد تجاهلت ما يسمى بالتجارب الأخلاقية للجور الاجتماعي الذي يساهم في تعرض هوية الشخص إلى عدم الإعتراف الاجتماعي.

وبعد مناقشة مستفيضة من لدن هونيث لنظرية هابرماس توصل إلى قناعة فكرية مفادها أن التواصل لم يعد كافيا لتفسير النزاع الاجتماعي، لأنه اعتبره براديغما اقتصر على نمط واحد من العلاقة ألا وهي مستوى احترام الذات، وأقصى الأشكال الأخرى من الإعتراف.

لهذا التزم في إخراج براديغم الإعتراف، معتبرا أن العالم المعيش الأولي الخاص بالوجود البشري هو عالم الإعتراف، وليس عالم التفاهم اللغوي، والأولوية طبعا للإعتراف لا للتفاهم، وهو أمر يمكن إثباته بكل يسر وبساطة، وذلك لأن الاعتراف كأنموذج عاطفي يسبق دوما من الناحية التكوينية عملية اكتساب اللغة.

ولقد اتفق أكسيل هونيث ويورغن هابرماس حول موقف هذا الأخير من عملية التواصل بين الذوات كأمر لزومي داخل السياق السوسيولوجي والثقافي، ومن ثم ولوجه الطابع الكوني، لأنه انطلاقا من المنحى اللغوي منح يورغن هابرماس منزلة للشق الاجتماعي للمدرسة النقدية ، و لهذا آنبرى هونيث لتأسيس تصوره الجديد الذي لا يتوقف فقط في منحى التواصل اللغوي الضيق، بل يسعى لتجاوزه نحو أفق
قيمي جديد للإعتراف المتبادل، من خلال إعادة إدماج بنيوي لأشكال الصراعات السوسيولوجية، وأيضا أنماط الخبرات الإتيقية، بحيث يكسب فيها الفرد وعيه بنفسه، وبالآخرين في نفس الآن.

يتبع….

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *