قصة قصيرة بعنوان : معا… إلى الأبد
كان البحر في تلك الليلة هادئا ، لا تسمع هدير أمواجه ، بل إنها تأتي تلامس الرمال الباردة في هدوء ، و تجعلها مضيئة برغوتها البيضاء ، ومن حين إلى آخر يبلغ وميض المنار القديم الواقف بإجلال على رأس الميناء إلى المقهى حيث أجلس أرتشف قهوة لا مذاق لها.
أشعلت سجارة رخيصة و نفتت دخانها الذي أحرق صدري…النار تحترق والدخان يتصاعد و أنا أحترق من الداخل…رفعت رأسي نحو الأنوار هناك على الطريق الوحيد المؤدي إلى المكان الهادئ على الشاطئ.
بدأت أسترجع ما مرَ بي في ذلك اليوم الحزين…لم أكن أعرف أنني سوف أكون بهذا الضعف ، ولم أكن أعرف أنني سوف أكون بهذا الجبن ، بل لم أكن أعرف أنني وهذه السجارة سيان….
أصبحت الأصوات و الصور تمر أمامي ،تجتاحني ، تفقدني صوابي ، تأخذني إلى الممر التحتي لمحطة القطار حيث كنت حينها واقفا شاردا بجانبها لا أتكلم:
– َمالَكْ َساكَتْ َراني َغادْيَة فْحالِي…
هدير القطار و أصوات المسافرين يملأ المكان و الزمان،يحتل الرصيف:
– كُلْشي لِبنينَاهْ تْهَدَّمْ…هَذي هِيَ الرُّجْلَةْ…أَنا مْعَاكْ أٌو دِيمَا مْعَأكْ…
لم أسمع ماذا قالت لي ولم أدر ماذا فعلت، كنت بقربها لكنني بعيد عنها، يدي تلامس يدها و إحساسي بها غادر المكان و التحف رداء الجبن و لم يتسع للزمان:
– هَا تْرَّانْ دْيَالِي جَا…بْلا مَا تْكُولِيَ بْسْلامَة…كُولْشِي قْرَايْتُو فْعَيْنِيكْ…
قبلتها قبلة لا لون و لا طعم لها،أحسست أن فمي أصابه شلل،كأنه يحمل بين طياته قطعا من الثلج….لوحت لها بيدين ثقيلتين ، وصورة شعرها الأسود القصير يمر بين نوافذ المقصورة ، حتى غابت عني عند خروج القطار من المحطة ….
أشعلت السجارة الثانية كأني أطفئ غلياني وغيظي في دخان ينفلت من صدري ، يغيب عني ، يصعد الهوينى لينقشع عن بحر أسود لا أرى منه سوى لون أمواجه البيضاء المحطمة بهدوء على الرمل … وتترأى وسط دخان سجارتي أشباح العشاق يمشون ، يتهامسون ، يتلامسون على طول الشاطئ ، فأسأل نفسي ، هل يجب أن أقدم التماسا ؟ ولمن ؟ هل يعني أنهم أكثر أحقية مني ، أو أنهم أكثر حقا مني في الحياة ؟ وصار كل ما أريد قوله قد تدمر بكلماتي.
إنه نفس المكان الذي تعرفت فيه على حبيبتي ، وهذا الصخر يعرفنا ، يحيينا ، يبتسم لنا ، وهذا الرمل ملأناه خطى ، وخططناه قلوبا ، واقشعرت حبيباته عشقا وشغفا…قطع النادل حبل تفكيري:
– خَلَّصْنِي سَالا الْوَقْتْ دْيَالِي…
رمقته بعيون أعماها دخان سجارتي الرخيصة ، أديت ثمن القهوة السوداء ، تأبطت الجريدة ، وانطلقت نحو الرمل البارد ، والآذان ينبعث من مئذنة المسجد العتيق المطل على سور المدينة القديمة ، ووميض المنار يزداد حدة ، ووشوشات العشاق حولي تقرصني ، تلدغني ، تخرجني عن صوابي….
بدأت المشي بخطى تحمل أطنانا من الهموم والأحزان ، أدفع الهم لأضع الحزن ، وأرفع الغم لأترك الكرب ، ورأسي غارق في كوابيس تملأني ، تغمرني ، تحملني ، تجتاحني ، حتى دخل عقلي في حالة من اللاوعي ، ومن اللاشعور ، فلم أعد أحس أو أذكر أين كنت ، ولا أين أصبحت ، ولا إلى أين أمشي…
هناك مثال فارسي مأثور: "الخير والشر هو نتاج أعمال المرء"…وأنا في هذه اللحظات العصيبة أقررت أني أستحق ذلك .. فذاك عملي و فعل يدي و لكن لا جدوى من الحديث، فلا أحد يكترث لما أقول و فيم أفكر. ..
في خضم هذه الهواجس السامة ، و الخواطر العدمية ، وهذه اللحظات التي غابت فيها نفسي عن روحي ، واختفى فيها فؤادي عن جسدي ، أحسست بلمسة يدين رقيقتين على عيني… إنني أعرف اللمسة حق المعرفة ، وأعرف العطر الذي يغرقني في بحر من العشق والهوى حق المعرفة ، بدأت أتنفس كأنني عدت من أعماق المحيط المتلاطمة أمواجه ، كأنني عدت من عالم الأشباح .. من عالم الأموات ، وأذني تسمع أحلى وأشجى الأصوات:
– مَا عُمْرَّكْ مَا غَادِي تْخَلَّصْ مَنِّي ..أَنَا وْرَاكْ وْرَاكْ..
إنها حبيبتي، إنها بسمة حياتي، إنها موجتي التي تتكسر على شاطئ أحضاني، إنها الهواء الذي ينظف رئتي من دخان سجارتي الرخيصة، إنها طوق النجاة في بحر الحياة الماكرة:
– التّْرَّانْ دَّاكْ… شْتُّو دَّاكْ…كِيفَاشْ انْتِ هْنَا؟
– مَا عٌّمْرُّو مَا غَادِي دِّينِي … مَا عٌّمْرُّو مَا دَّانِي…خَصُّو إيِدِّينَا بْجُوجْ…
عانقتني و ضمتني إلى صدرها، أحسست أن هذا الجسد الذي نخره المرض و أضناه السقم و أبكته العلة، أصبح نظيفا معافى،و أن دمي في عروقي لم يعد تعشش فيه الخلايا الظالمة المخربة،ولا ذلك الفيروس الوحشي القاتل.
أقبلت علي بنظرات ملؤها الحب والمحبة وليس العطف والشفقة على رجل اشتدت به العلة وصار المرض في مراحله الأخيرة.
أقبلت علي بكلمات سمعتها من قبل ولكني لم أتذوقها ولم أبال بوقعها كهاته اللحظات الفريدة…
أقبلت علي بلمسات حنونة كنت أجهل سرها حتى الآن، اشتبكت أصابعنا وسرنا معا،الكتف على الكتف، لم أعد أحس ذلك الإحساس الغريب الذي لف رأسي منذ ذلك اليوم الخريفي الممطر، حين أكد لي الطبيب أنني مصاب بداء العصر، بداء المجهول، وأن المرض دخل مراحله النهائية، دخل الأمتار الأخيرة في سباق الحياة و الموت،حينئذ دخلت قمقما جنيا لم أجد لا القوة و لا النفس لأخرج منه،و أصبحت نفسي لا تطيق نَفَسي، و أصبحت السجارة الرخيصة نارا في رئتي، نارا على شفتي،لكني أكثرت منها كأني أنتقم من الشفتين،من الرئتين،من الدم الذي يحمل الأذى،من الدم الذي يجري في العروق.
كانت الريح خفيفة تتمايل على الشاطئ من جهة الشرق،جلست قرب حبيبتي نتأمل سويا تلك النوارس البيضاء تارة تحوم فوق رؤوسنا وتارة تحط على الصخور، و الشمس تنزل متهالكة،تعبة على مياه البحر لتسبح من يوم كانت الحرارة فيه مفرطة.
– هَذَا يَوْمْ جْديدْ الْحْبِيبْ.. أَنَا مْعَاكْ أُو عُمْري مَا نْخَليكْ بُوحْدَكْ
– أَنَا خَايْفْ عْليكْ…
– مَاتْخافْشْ…مَانْخَافُوشْ هَذَا قَدَرْنَا أُو غَنْكَدُوا عْليهْ..لَكِنْ…
– لَكِنْ أَشْ؟؟
– خَصْنَا نْكُونُوا بْجُوجْ.. نْقَاوْمٌوابْجُوجْ..نْخُرْجُوا مَنْ هَاذْ الْقٌمْقٌمْ بْجُوجْ..
وضعت رأسي على كتفها و نظرت إلى الشمس و هي تودعني ،ربما لأخر مرة،لكنها تودعني..تودع يوما عشته وشربته وتنفسته وأحببته واستمتعت به … بل استمتعنا بشمسه التي سوف نلقاها في الغد ..ربما..من يدري.