الأنوار.. بعين كانط ومجهر فوكو
أحمد معطاوي
النهضة كانت تنويرا، ولكنها لم تشكل قطيعة معرفية كاملة مع العصور الوسطى، كانت مرحلة انتقالية على الرغم من جراءة مفكريها وروعة إنجازاتها
وحده القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير، استطاع أن يحقق هذه القطيعة الكبرى التي لا تكاد تصدق، والتي لا تزال تدهش حتى اليوم
التنوير الذي يعني الفكر المنفتح المبني على تقبل الآخر، ويقف ضد كل فكر جامد أو متسلط، والذي يعني الاستنارة العقلية أي دخول الأنوار إلى العقل، هو حركة سياسية وعلمية وأخلاقية هدفت إلى التحرر من سلطة الكنيسة ومجدت العقل القائم على الحجة والبرهان
قال فوكو ذات مرة: إنه لا توجد فلسفة إلا وواجهت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نفس السؤال: ما الحدث الذي يسمى الأنوار؟
فلسفة الأنوار شكلت لحظة مفصلية في التطور الفكري للإنسانية، حيث جعلت الإنسان في قلب العالم ونظرت إلى العقل كأداة أساسية لفهم الكون والطبيعة
عرف كانط عصر الأنوار بأنه” خروج الإنسان من القصور (العجز) الذي يرجع إليه هو ذاته” ولكي يكون حرا، على الإنسان إتباع عقله ووضع العاطفة تحت السيطرة
وعرف القصور بأنه ” عدم قدرة المرء على إستخدام فهمه دون قيادة الغير” ، وحالة هذا القصور اختيارية، المرء وحده يتحمل مسؤوليتها، وسببها؟ -يجيب كانط: الكسل والعجز..
ويحدد كانط تمثيلا ثلاثة مجالات يختارها المرء ليبقى فيها قاصرا
أولا، التفكير الشخصي. ثانيا، السلوك في الحياة. ثالثا، إتخاذ أي قرار باستشارة الشخص الوصي سواء كان الأب أو الشيخ أو الكاهن
كانط لم يطرح سؤال الأنوار كعصر للعالم ننتمي إليه، ولا كحدث ندرك علاماته، ولا كبداية إنجاز، بل كخروج من القصور ويبقى العقل أداة هذا الخروج والذي لن يتم إلا بتغيير يحدثه الفرد بنفسه على نفسه تحت الشعار الذي سطره كانط للأنوار حين قال:” تجرأ على إعمال عقلك الخاص“
ولقد ميز كانط بين استعمالين للعقل:
استعمال عمومي: يجب أن يكون فيه العقل حرا
استعمال خاص: يكون العقل فيه خاضعا
وعبر هذا الاستعمال العام والخاص للعقل أحدث سؤال كانط (ما الأنوار ) قطيعة مفاهيمية بتعبير فوكو، ليستطيع الإنسان الخروج من حالة القصور إلى التنوير بوصفه بلوغ الإنسانية حالة الرشد العقلي
والإنسانية كلمة لها أهميتها في التصور الكانطي للتاريخ، فإذا كانت تعني أن مجموع النوع البشري هو المقصود في حدث الأنوار، فإن الأنوار تصير تغيرا تاريخيا يمس الوجود السياسي والاجتماعي لجميع البشر
وإنها لا تتحقق هذه الأنوار بالثورة بل بحرية الاستعمال العمومي للعقل
وبربط مقال كانط “ما الأنوار ” بمؤلفات النقد الثلاث فإن هذا النص بحسب فوكو يصف الأنوار كلحظة تسعى فيها الإنسانية إلى إستعمال فكرها الخاص دون الخضوع لأي سيطرة، وهذه اللحظة بالذات هي التي يكون فيها النقد ضروريا، النقد الذي يحدد الشروط المشروعة لاستعمال العقل، ليحدد:
أولا : ماذا يمكن أن أعرف (نقد العقل الخالص)
ثانيا: ماذا يمكن أن أعمل (نقد العقل العملي)
ثالثا: ماذا يمكن ان آمل( نقد ملكة الحكم)
كأن النقد بمثابة مذكرات عقل أصبح خارج وضعية القصور في عصر الأنوار وأصبحت الأنوار هي عصر النقد
وبربط نص كانط أيضا بالنصوص المخصصة للتاريخ فإن تحليل الأنوار باعتبارها مرور الإنسانية إلى حالة التطور توضح كيف أن كل فرد بطريقة ما، هو المسؤول عن هذا الحدث الأنوار كحدث يشترك فيه جميع الأفراد وكفعل شجاع يقوم به كل فرد بطريقته الخاصة
إن التنوير العصر الذي مجد العقل والعلم والذي ارتضى استخدام العقل كشعار، ولكي يستخدم الإنسان هذا العقل عليه أن يتخلص من الكسل والجبن وحكم الأوصياء، وعليه أن يتجاوز حالة القصور التي تحولت إلى طبيعة ملازمة له
ويبقى الشرط الأساسي للتنوير هو الحرية، يقول كانط: “ لا يتطلب (التنوير) شيئا غير الحرية، وهو في الحقيقة لا يتطلب إلا أبعد أنواع الحرية عن الضرر، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور.”
فيا أمة المليار، هلمي لتعيشي الأنوار كنجاح في الذهن لعله يتحقق في الوجود، فالنجاح يتحقق مرتين، مرة في الذهن ومرة في الواقع كما يقول أهل فن تنمية الذات لعل حدث الأنوار الكريم يطرق بابك الموصد بأغلال الأنانية المستعلية والعادة الجارفة وذهنية القطيع، ذات ليل أو ذات نهار، وما ذلك على الله بعزيز